فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟».
والجمعاء سالمة الأذن والجدعاء مقطوعتها.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
وروى الطبري عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها».
قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: {وإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بِني آَدمَ} الآية- رواه الإمام أحمد والنسائي- بدون استشهاد الحسن بالآية.
وأما الأخبار المروية في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتكليمه تعالى إياهم ونطقهم، ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم، فغير صحيحة الإسناد.
وما حسن إسناده منها فغير صريح في ذلك، بل هو أقرب إلى ألفاظ الآية، كما بينه الحافظ ابن كثير، قال رحمه الله:
ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض والأسود. وقد فسر الحسن الآية بذلك.
قالوا: ومعنى أشهدهم أي: أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالًا وقالًا.
والشهادة تارة تكون بالقول، كقوله: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} الآية، وتارة تكون حالا كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر} أي: حالهم شاهدًا عليهم بذلك، لأنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}، كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه}.
قالوا: مما يدل على أن المراد هذا، أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع كما قاله من قاله، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه.
فإن قيل: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد.
{أَن تَقُولُواْ} أي: كراهة أن تقولوا.
{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: الذي يسأل فيه عن الربوبية والتوحيد.
{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} أي: عن ربوبيته وتوحيده {غَافِلِينَ} أي: لم ننبه عليه.
فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر، صاروا محجوبين عاجزين عن الإعتذار بذلك، إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}.
هذا كلام مصروف إلى غير بني إسرائيل، فإنهم لم يكونوا مشركين والله يقول: {أو تقولوا إنما أشرك آباءنا من قبل} فهذا انتقال بالكلام إلى محاجة المشركين من العرب، وهو المقصود من السورة ابتداء ونهاية، فكان هذا الانتقال بمنزلة رد العجز على الصدر.
جاء هذا الانتقال بمناسبة ذكر العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل في وصية موسى، وهو ميثاق الكتاب، وفي يوم رفع الطور.
وهو عهد حصل بالخطاب التكويني أي بجعل معناه في جبلة كل نسمة وفطرتها، فالجملة معطوفة على الجمل السابقة عطف القصة على القصة.
والمقصود به ابتداءهم المشركون.
وتَبَدُّل أسلوب القصة واضح إذ اشتملت هذه القصة على خطاب في قوله: {أن تقولوا يوم القيامة} إلى آخر الآية.
وإذ صرح فيها بمعاد ضمير الغيبة وهو قوله: {من بني آدم} فعموم الموعظة تابع لعموم العظة.
فهذا ابتداء لتقريع المشركين على الإشراك، وما ذكر بعده إلى آخر السورة مناسب لأحوال المشركين.
و{إذ} اسم للزمن الماضي، وهو هنا مجردٌ عن الظرفية، فهو مفعول به لفعل اذكرْ محذوف.
وفعل {أخذ} يتعلق به {من بني آدم} وهو معدَّى إلى ذرياتهم، فتعين أن يكون المعنى: أخذ ربك كلَّ فرد من أفراد الذرية.
من كل فرد من أفراد بني آدم، فيحصل من ذلك أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله تعالى.
و{من} في قوله: {من بني آدم} وقوله: {من ظهورهم} ابتدائية فيهما.
والذُرّيات جمع ذُرَيّةَ، والذّريّة اسمُ جمع لما يتولد من الإنسان، وجمعُه هنا للتنصيص على العموم.
وأخذُ العهد على الذرية المخرَجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذَ العهد عى الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى، وإلا لكان أبناء آدم الأدْنَون ليسوا مأخوذا عليهم العهد مع أنهم أولى بأخذ العهد عليهم في ظهر آدم.
ومما يثبت هذه الدلالة أخبار كثيرة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمع من أصحابه، متفاوتة في القوة غيرُ خالٍ واحدٌ منها عن مُتكلَّم، غير أن كثرتها يؤيد بعضُها بعضًا، وأوضحها ما روى مالك في الموطأ في ترجمة النهيُ عن القول بالقدر بسنده إلى عمر بن الخطاب قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن هذه الآية: {وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وساق الحديث بما لا حاجة إليه في غرضنا، ومحمل هذا الحديث على أنه تصريح بمدلول الفحوى المذكور، وليس تفسيرًا لمنطوق الآية، وبه صارت الآية دالة على أمرين، أحدهما: صريح وهو ما أفاده لفظها، وثانيهما: مفهوم وهو فحوى الخطاب.
وجاء في الآية أن الله أخذ على الذريات العهد بالإقرار بربوبية الله، ولم يُتعرض لذلك في الحديث، وذُكر فيه أنه ميز بين أهل الجنة وأهل النار منهم، ولعل الحديث اقتصار على بيان ما سأل عنه السائِلُ فيكون تفسيرًا للأية تفسيرَ تكميل لما لم يذكر فيها، أو كان في الحديث اقتصار من أحد رواته على بعض ما سمعه.
والأخذ مجاز في الإخراج والانتزاع قال الله تعالى: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} [الأنعام: 46] الآية.
وقوله: {من ظهورهم} بدل {من بني آدم} أبدل بعض من كل، وقد أعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كما تقدم في قوله تعالى: {ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ} في سورة الأنعام (99).
والإشهاد على الأنفس يطلق على ما يساوي الإقرار أو الحمل عليه، وهو هنا الحمل على الإقرار، واستعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم.
والضمير في {أشهدهم} عائد على الذرية باعتبار معناه، لأنه اسم يدل على جمعَ.
والقول في {قالوا بلى} مستعار أيضًا لدلالة حالهم على الإعتراف بالربوبية لله تعالى.
وجملة {ألستُ بربكم} مقولٌ لقول محذوف هو بيان لجملة {أشهدهم على أنفسهم} أي قررهم بهذا القول وهو من أمر التكوين.
والمعنى واحد، لأن الذرية لما أضيف إلى ضمير بني آدم كان على معنى التوزيع.
والاستفهام في {ألست بربكم} تقريري، ومثله يقال في تقرير من يُظن به الإنكار أو يُنزل منزلة ذلك، فلذلك يقرر على النفي استدراجًا له حتى إذا كان عاقدًا قلبه على النفي ظن أن المقّرر يطلبه منه، فأقدم على الجواب بالنفي، فأما إذا لم يكن عاقدًا قلبه عليه فإنه يجيب بإبطال النفي، فيتحقق أنه بريء من نفي ذلك، وعليه قوله تعالى: {ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق} [الأحقاف: 34] تنزيلًا لهم منزلة من يظنه ليس بحق، لأنهم كانوا ينكرونه في الدنيا، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم ياتكم رسلٌ منكم} في سورة الأنعام (130).
والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكُنْه، لأنها وراء المعتاد المألوف، فيراد تقريبها بهذا التمثيل، وحاصل المعنى: أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها.
وجملة: {قالوا بلى} جواب عن الاستفهام التقريري، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).
وأطلق القول إما حقيقة فذلك قول خارق للعادة، وإمّا مجازًا على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى، كما أطلق القول على مثله في قوله تعالى: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] أي ظهرت فيهما آثار أمر التكوين.
وقال أبو النجم:
قالت له الطيرُ تقّدم راشدًا ** إنك لا ترجع إلا حامدًا

فهو من المجاز الذي كثر في كلام العرب.
و{بلى} حرف جواب لكلام فيه معنى النفي، فيقتضي إبطال النفي وتقرير المنفي، ولذلك كان الجواب بها بعد النفي أصرح من الجواب بحرف نَعم، لأن نعم تحتمل تقرير النفي وتقرير المنفي، وهذا معنى ما نقل عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: «لو قالوا نعم لكفروا» أي لكان جوابهم محتملا للكفر، ولما كان المقام مقام إقرار كان الاحتمال فيه تفصيا من الاعتراف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب: {ذرياتهم}، بالجمع، وقرأ الباقون {ذُريتهم}، بالإفراد.
وقولهم: {شهدنا} تأكيد لمضمون {بلى} والشهادة هنا أيضًا بمعنى الإقرار.
ووقع {أن تقولوا} في موقع التعليل لفعل الأخذ والإشهاد، فهو على تقرير لام التعليل الجارة، وحذفُها مع أنْ جار على المطرد الشائع.
والمقصود التعليل بنفي أن يقولوا {إنا كنا عن هذا غافلين} لا بإيقاع القول، فحذف حرف النفي جريا على شيوخ حذفه مع القول، أو هو تعليل بأنهم يقولون ذلك، إن لم يقع إشهادهم على أنفسهم كما تقدم عند قوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب} في سورة الأنعام (156).
وقرأ الجمهور: أن تقولوا بتاء الخطاب وقد حول الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب، ثم من خطاب الرسول إلى خطاب قومه، تصريحًا بأن المقصود من قصة أخذ العهد تذكير المشركين بما أودع الله في الفطرة من التوحيد، وهذا الأسلوب هو من تحويل الخطاب عن مخاطب إلى غيره، وليس من الإلتفاف لاختلاف المخاطبين.
وقرأه أبو عمرو، وحده: بياء الغيبة، والضمير عائد إلى ذريات بني آدم.
والإشارة بـ {هذا} إلى مضمون الاستفهام وجوابه وهو الاعتراف بالربوبية لله تعالى على تقديره بالمذكور.
والمعنى: أن ذلك لمَّا جُعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذرَ يوم القيامة، إذا سئل عن الإشراك، بعذر الغفلة، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أنْ لا تقولوا إلخ.
وعُطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقًا، فلما كان في أصل الفطرة العلمُ بوحدانية الله بطل الاعتذار بالجهل به، وكان الإشراك إما عن عمد وإما عن تقصير، وكلاهما لا ينهض عذرًا، وكل هذا إنما يصلح لخطاب المشركين دون بني إسرائيل. اهـ.